إدارة المشاعر وفق علم النفس: سر التحكم في التوتر والقلق اليومي


إدارة المشاعر وفق علم النفس: سر التحكم في التوتر والقلق اليومي

يمر الإنسان في حياته اليومية بالكثير من المواقف التي تُثير مشاعره بشكل مباشر، سواء أكانت إيجابية مثل الفرح والإنجاز، أو سلبية مثل التوتر والقلق. ورغم أن المشاعر جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، إلا أن القدرة على إدارتها بوعي أصبحت مهارة أساسية في عصرنا الحديث، حيث الضغوط تتزايد والسرعة تفرض إيقاعها.

علم النفس يقدّم لنا مفاتيح مهمة لفهم طبيعة المشاعر وكيفية التعامل معها بفعالية، بحيث لا تتحول إلى عائق أمام التوازن النفسي والجسدي.


أولاً: ما هي إدارة المشاعر؟

إدارة المشاعر لا تعني كبت العواطف أو إنكارها، بل هي القدرة على:


التعرّف على المشاعر لحظة حدوثها.


تسمية العاطفة بدقة (هل هو خوف أم قلق؟ غضب أم استياء؟).


اختيار رد فعل واعٍ بدلاً من الانفعال التلقائي.


الفرق بين كبت المشاعر وإدارتها


الكبت: يعني إخفاء العاطفة وقمعها، مما يؤدي إلى تراكم داخلي يسبب القلق أو الأمراض الجسدية.


الإدارة: تعني الاعتراف بالعاطفة وفهمها، ثم توجيهها بطريقة صحية تخدم الموقف.


ثانياً: علم النفس ونظريات تنظيم الانفعال

علم النفس قدّم عدة نظريات لشرح كيفية تعامل الإنسان مع مشاعره، ومن أبرزها:

1. نظرية جيمس-لانج


ترى هذه النظرية أن المشاعر تنشأ نتيجة استجابات جسدية؛ فمثلاً نحن نشعر بالخوف لأن أجسادنا ترتعش أولاً.


2. نظرية كانون-بارد


ترى أن المشاعر والجسد يتفاعلان في الوقت نفسه؛ أي أننا نشعر بالخوف ونرتعش في آن واحد.


3. نظرية لازاروس (التقييم المعرفي)


تؤكد أن ما يحدد شدة العاطفة ليس الموقف بحد ذاته، بل تفسيرنا العقلي له. فإذا اعتبرنا تحدياً بسيطاً تهديداً خطيراً، فسوف يتضاعف القلق.


ثالثاً: التوتر والقلق اليومي – بين الطبيعي والمَرَضي

1. التوتر الطبيعي


هو استجابة طبيعية للجسم عند مواجهة مواقف جديدة أو صعبة. يساعدنا على التركيز ويحفّزنا على الإنجاز.


2. القلق اليومي


قد يظهر كأفكار متكررة، أو توتر عضلي، أو أرق. وهو طبيعي طالما لم يعيق الحياة اليومية.


3. متى يصبح القلق مرضياً؟


إذا استمر لفترات طويلة.


إذا أثر على النوم والأداء الوظيفي.


إذا صاحبه خفقان شديد وأعراض جسدية مزعجة.


رابعاً: استراتيجيات إدارة المشاعر وفق علم النفس

1. الوعي العاطفي (Mindfulness)


الانتباه للحظة الحاضرة دون حكم أو مقاومة.


تدريب النفس على مراقبة المشاعر كعابرين، لا كجزء من الهوية.


ممارسة تمارين التنفس العميق والتأمل.


2. إعادة التقييم المعرفي (Cognitive Reappraisal)


تغيير تفسيرنا للموقف لتخفيف شدّة الانفعال.


مثال: بدلاً من التفكير "هذا الامتحان سيدمّر مستقبلي"، يمكن إعادة صياغته إلى "هذا امتحان مهم لكنه فرصة للتعلّم".


3. التعبير الصحي عن المشاعر


الكتابة اليومية (دفتر المشاعر).


التحدث مع صديق أو مختص نفسي.


استخدام الفن أو الرياضة كوسيلة للتفريغ.


4. تنظيم البيئة


تقليل مصادر الضوضاء والفوضى.


ترتيب الأولويات واستخدام قوائم المهام.


خلق مساحات للهدوء مثل القراءة أو المشي.


5. استراتيجيات سلوكية


ممارسة الرياضة: تساعد على إفراز الإندورفين، هرمون السعادة.


النوم الكافي: يقلل من فرط النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالقلق.


الغذاء الصحي: الأطعمة الغنية بالمغنيسيوم وأوميغا-3 تدعم التوازن العصبي.


خامساً: أدوات نفسية للتحكم في التوتر اليومي

1. تقنيات التنفس


تنفّس 4-7-8: شهيق 4 ثوانٍ، حبس 7، زفير 8.


يقلل من ضربات القلب ويعطي إشارة للدماغ بالاسترخاء.


2. تقنية "إيقاف الفكر"


عند ملاحظة أفكار مقلقة متكررة، نوقفها بوعي ونستبدلها بعبارة إيجابية مثل: "أنا قادر على التعامل مع هذا".


3. دفتر الامتنان


تدوين ثلاثة أشياء ممتن لها يومياً.


يوجّه الانتباه نحو الجانب الإيجابي، ويقلل من اجترار القلق.


4. الحوار الذاتي الإيجابي


استبدال العبارات السلبية ("لن أنجح") بأخرى بنّاءة ("سأبذل جهدي وأتعلم من النتيجة").


سادساً: دور العلاقات الاجتماعية في إدارة المشاعر


وجود شبكة دعم اجتماعي يُخفّف من أثر الضغوط.


التحدث مع أشخاص يفهمون مشاعرنا يخفّف التوتر.


المشاركة في أنشطة جماعية تعزز الشعور بالانتماء وتقلل من العزلة.


سابعاً: أخطاء شائعة في التعامل مع التوتر والقلق


الهروب المستمر من المواقف المقلقة، ما يزيد من حدة القلق.


الإفراط في الكافيين والسكريات، مما يرفع التوتر العصبي.


المقارنة بالآخرين بشكل دائم، وهو من أبرز مصادر القلق.


الاستخدام المفرط للهاتف ومواقع التواصل، حيث يشتت الانتباه ويعزز مشاعر النقص.


ثامناً: متى نلجأ إلى المساعدة المتخصصة؟


رغم أن استراتيجيات الإدارة الذاتية فعّالة، إلا أن بعض الحالات تحتاج إلى تدخل متخصص، مثل:


القلق المستمر لأكثر من 6 أشهر.


نوبات هلع متكررة.


أعراض جسدية شديدة مثل ضيق التنفس أو ألم الصدر.


صعوبة ممارسة الحياة اليومية بشكل طبيعي.


العلاج النفسي (مثل العلاج السلوكي المعرفي) والأدوية بإشراف الطبيب قد تكون ضرورية في هذه الحالات.


تاسعاً: الجانب الإيجابي للمشاعر السلبية


قد يبدو التوتر والقلق عدوّين دائمين، لكن لهما جوانب إيجابية:


القلق المعتدل يحفز على الاستعداد والتخطيط.


التوتر القصير المدى يساعد على الحذر والانتباه.


المشاعر السلبية تعلّمنا عن أنفسنا وتوجّهنا نحو التغيير.


عاشراً: خطوات عملية يومية لإدارة المشاعر


ابدأ يومك بالتنفس العميق أو التأمل لدقائق.


حدد أولوياتك ولا تحاول إنجاز كل شيء دفعة واحدة.


مارس نشاطاً بدنياً ولو 15 دقيقة مشياً.


دوّن أفكارك ومشاعرك بدل تركها تدور في ذهنك.


تواصل مع شخص مقرّب للتعبير عما تشعر به.


مارس هواية مفضلة لكسر روتين الضغط.


اختم يومك بتمرين امتنان يساعدك على النوم بسلام.


الخاتمة


إدارة المشاعر ليست مهارة تُكتسب في يوم وليلة، بل هي عملية مستمرة تتطلب الوعي والتمرن والتجربة. كلما أدرك الإنسان طبيعة مشاعره، وتعلم كيف يعيد تفسيرها ويتعامل معها بمرونة، كلما أصبح أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة اليومية بتوازن وطمأنينة.

علم النفس يضع بين أيدينا أدوات علمية وعملية تساعدنا على تحويل التوتر والقلق من عائق إلى محفز، ومن عبء إلى فرصة للنمو والتطور.

تعليقات